كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَقُولُ: يَعْنِي أنه يَحْمِلُ الْبَلَاءَ بِلَا تَبَرُّمٍ، وَلَا سَآمَةٍ، فَإِنْ ظَفِرَ لَا يَفْرَحُ فَرَحَ الْبَطِرِ الْفَخُورِ، وَإِنْ خَسِرَ لَا يَشْقَى شَقَاءَ الْبَئُوسِ الْكَفُورِ، فَهَذَا الْإِعْلَامُ تَرْبِيَةٌ مِنَ اللهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا بَالُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [23: 68]؟ هَذَا وَإِنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الأولى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْآخِرَةِ- كَمَا يَأْتِي- فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِابْتِلَاءِ فِيهَا بِالْمَالِ هُوَ الْحَاجَةُ وَالْقِلَّةُ كَمَا حَصَلَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، ثُمَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، رَاجِعْ تَفْسِيرَ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} [2: 155]، وَتَقْرَأُ بَيَانَهُ لَنَا بَعْدَ خَمْسَةِ أَسْطُرٍ.
وَأَمَّا قوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} فَهُوَ ابْتِلَاءٌ آخَرُ، وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مَلَئُوا الْفَضَاءَ بِكَلَامِهِمُ الْمُؤْذِي لِلرَّسُولِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، فَلِمَاذَا صَرَّحَ الْكِتَابُ بِهَذَا، وَهُوَ مَا أَلِفَهُ الْمُسْلِمُونَ وَاعْتَادُوا؟ بَلْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ فِي الِابْتِلَاءِ فِي الْأَنْفُسِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ.
أَقُولُ: نَبَّهَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذَا النَّبَإِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنْهُ فِي سَبَبِهِ، وَالْمُرَادِ مِنْهُ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي اطَّلَعْتُ عَلَيْهَا، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّارِيخِ؛ أَيْ سِيرَةِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا تَذَكَّرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْآخِرَةِ الَّتِي سَبَقَ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ بَعْدَ الْكَلَامِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَغَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ- وَتَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ، وَتَذَكَّرْنَا مَا كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَقَذْفِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ- بَرَّأَهَا اللهُ تعالى- وَمِنْ تَأَلُّبِ الْيَهُودِ، وَنَقَضِ عُهُودِهِمْ، وَمُحَاوَلَتِهِمْ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَجْلَاهُمْ، وَأَمِنَ شَرَّ مُجَاوَرَتِهِمْ إِيَّاهُ بِالْمَدِينَةِ، وَمِنْ تَأَلُّبِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَمْعِ الْأَحْزَابِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَزَحْفِهِمْ عَلَى الْمَدِينَةِ لِأَجْلِ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ، وَالْجُوعِ الدَّيْقُوعِ، وَالْحِصَارِ الضَّيِّقِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ كُلِّهِ: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظَّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [33: 10، 11]- إِذَا تَذَكَّرْنَا هَذَا كُلَّهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ تَمْهِيدٌ لَهُ، وَإِعْدَادٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِتَلَقِّيهِ لَعَلَّ وَقْعَهُ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يَعْنِي إِنْ تَصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ الْكَبِيرِ الَّذِي سَيَحِلُّ بِكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَعَلَى مَا تَسْمَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَذَى، وَتَتَّقُوا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَمُكَافَحَتِهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى مِنْ مَعْزُومَاتِ الْأُمُورِ أَيِ الْأُمُورُ الَّتِي يَجِبُ الْعَزْمُ عَلَيْهَا، أَوْ مِمَّا عَزَمَ اللهُ أن يكون؛ أَيْ مِنْ عَزَمَاتِ قَضَائِهِ الَّتِي لابد مِنْ وُقُوعِهَا.
وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ ضَعْفَ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَا كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَفِنْحَاصَ، وَقَدْ سَرَدْنَا الرِّوَايَةَ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، وَمَا سَبَقَهَا مِنَ التَّمْهِيدِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ- وَإِنْ حَسَّنَهَا مَنْ رَوَاهَا- وَيُرَجِّحُ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ لَا فِي الْكَافِرِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فِيمَا كَانَ يَهْجُو بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَهَذِهِ أَضْعَفُ مِنَ الأولى، فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ قُتِلَ قَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَكَفَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ كَيْدَهُ وَقَوْلَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصَّبْرُ هُوَ تَلَقِّي الْمَكْرُوهِ بِالِاحْتِمَالِ، وَكَظْمُ النَّفْسِ عَلَيْهِ مَعَ الرَّوِيَّةِ فِي دَفْعِهِ، وَمُقَاوَمَةِ مَا يُحْدِثُهُ مِنَ الْجَزَعِ، فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: دَفْعُ الْجَزَعِ، وَمُحَاوَلَةُ طَرْدِهِ، ثُمَّ مُقَاوَمَةُ أَثَرِهِ حَتَّى لَا يَغْلِبَ عَلَى النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمِ الْمَكْرُوهِ، فَمَنْ لَا يُحِسُّ بِهِ لَا يُسَمَّى صَابِرًا، وَإِنَّمَا هُوَ فَاقِدٌ لِلْإِحْسَاسِ يُسَمَّى بَلِيدًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الصَّبْرِ وَالْبَلَادَةِ، فَالصَّبْرُ وَسَطٌ بَيْنَ الْجَزَعِ وَالْبَلَادَةِ، وَمَا أَحْسَنَ قَرْنَ التَّقْوَى بِالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ، وَهِيَ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا هَدَى اللهُ إِلَيْهِ فِعْلًا، وَتَرْكًا عَنْ بَاعِثِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ؛ أَيِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُعْقَدَ عَلَيْهَا الْعَزِيمَةُ، وَتَصِحَّ فِيهَا النِّيَّةُ وُجُوبًا مُحَتَّمًا لَا ضَعْفَ فِيهِ.
وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَةِ الأولى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا كَانَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ- وَقَدْ تَقَدَّمَ أنه تعالى ذَكَرَ أَحْوَالَ النَّصَارَى مِنْهُمْ وَحَاجَّهُمْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ- ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ الْيَهُودِ قَبْلَ قِصَّةِ أُحُدٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِ شُئُونِهِمْ بَعْدَهَا، فَكَانَ مِنْهُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ كِتْمَانُ مَا أُمِرُوا بِبَيَانِهِ، وَاسْتِبْدَالُ مَنْفَعَةٍ حَقِيرَةٍ بِهِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ إِلَّا بِآيَتَيْنِ قَدْ عُرِفَتْ حِكْمَةُ وَضْعِهِمَا فِي مَوْضِعِهِمَا. وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أنه تعالى لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ شُبُهًا طَاعِنَةً فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَابَ عَنْهَا أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تعالى أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ- عَلَى أُمَّةِ مُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- أَنْ يَشْرَحُوا مَا فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ، وَصِدْقِ نَبُوَّتِهِ، وَرِسَالَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ إِيرَادُ الطَّعْنِ فِي نَبُوَّتِهِ، وَدِينِهِ مَعَ أَنَّ كُتُبَكُمْ نَاطِقَةٌ، وَدَالَّةٌ عَلَى أنه يَجِبُ عَلَيْكُمْ ذِكْرُ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نَبُوَّتِهِ، وَدِينِهِ، (الثَّانِي) أنه تعالى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتِمَالَ الْأَذَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ إِيذَائِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَكَانُوا يُحَرِّفُونَهَا، وَيَذْكُرُونَ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةً، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الصَّبْرُ اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَذَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي يُصَابُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّمَا يُصَابُونَ بِهِ لِأَخْذِهِمْ بِالْحَقِّ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَمُحَافَظَتِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَطَّنَ عَلَيْهِ نُفُوسَهُمْ- لِيَثْبُتُوا وَيَصْبِرُوا- أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ مَثَلَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، إِذْ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِبَيَانِ الْحَقِّ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ يُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِذَا كَتَمْتُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ يَكُونُ وَعِيدُكُمْ كَوَعِيدِهِمْ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أَيِ اذْكُرُوا إِذْ أَخَذَ اللهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا نَقُولُ فِي التَّوْرَاةِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ، وَلَا بِعَدَمِهِ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُقَيِّدَ بِرَأْيِنَا مَا أَطْلَقَهُ، وَنَزِيدَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ أَيْ أَكَّدَ عَلَيْهِمْ إِيجَابَ الْبَيَانِ أَوِ التَّبْيِينِ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّكْثِيرِ، وَالتَّدْرِيجِ، كَمَا يُؤَكِّدُ عَلَى الْمُخَاطَبِ أَهَمَّ الْأُمُورِ بِالْعَهْدِ وَالْيَمِينِ، فَيُقَالُ لَهُ: اللهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، فَقَرَءُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ حِكَايَةً لِلْمُخَاطَبَةِ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْمِيثَاقَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ {لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ} أَنَّهُمْ غَائِبُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ فِي الْآيَةِ 81 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوْثِقَ بِبَيَانِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أنه الْكِتَابُ الَّذِي أُوتُوهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَتَبْيِينُهُ هُوَ أَنْ يُوَضِّحُوا مَعَانِيَهُ كَمَا هِيَ، وَلَا يُئَوِّلُوهُ، وَلَا يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّتِي وُضِعَ لِتَقْرِيرِهَا، وَمَقَاصِدِهِ الَّتِي أُنْزِلَ لِأَجْلِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ فِي فَهْمِهِ لَبْسٌ، وَلَا اضْطِرَابٌ. وَهاهنا أَمْرَانِ: الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ وَهُوَ نَتِيجَةُ عَدَمِ الْبَيَانِ، وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ بِالْمَرَّةِ، وَهُوَ نَتِيجَةُ الْكِتْمَانِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ فِي التَّرْتِيبِ هُوَ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْكِتْمَانِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالْبَيَانِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ إِظْهَارِ الْكِتَابِ فَلِمَاذَا عَكَسَ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدَّمَ أَهَمَّ الأمريْنِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الْكِتْمَانُ تَقْتَضِي الْجَهْلَ الْبَسِيطَ وَهُوَ الْجَهْلُ بِالدِّينِ، وَفِي الثَّانِي تَقْتَضِي الْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَا لَيْسَ بِدِينٍ دِينًا، وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ أَهْوَنُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُوشِكُ أَنْ يَظْفَرَ بِالْكِتَابِ يَوْمًا فَيَهْتَدِيَ بِهِ وَيَعْرِفَ الدِّينَ، وَأَمَّا الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ- وَهُوَ فَهْمُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ- فَيَعْسُرُ زَوَالُهُ بِالْمَرَّةِ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ ضَالًّا مَعَ وُجُودِ أَعْلَامِ الْهِدَايَةِ أَمَامَهُ.
قَالَ: وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ عِنْدَنَا، وَفِي أَنْفُسِنَا، فَإِنَّ كِتَابَنَا- وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ- لَمْ يُوجَدْ كِتَابٌ فِي الدُّنْيَا حُفِظَ كَمَا حُفِظَ، وَنُقِلَ، وَنُشِرَ كَمَا نُشِرَ، فَإِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ حَفِظُوهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، وَهُمْ يَتْلُونَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ حَتَّى أنك تَسْمَعُهُ فِي الشَّارِعِ، وَالْأَسْوَاقِ، وَمُجْتَمَعَاتِ الْأَفْرَاحِ، وَالْأَحْزَانِ، وَفِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا تَبْيِينَهُ لِلنَّاسِ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ عَدَمُ الْكِتْمَانِ شَيْئًا؛ فَإِنَّهُمْ فَقَدُوا هِدَايَتَهُ حَتَّى إِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ مُنْحَرِفُونَ عَنْهُ، وَأَنَّ الْقَابِضَ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْغِشَّ قَدْ عَمَّ وَطَمَّ، وَيَعْتَرِفُونَ بِارْتِفَاعِ الْأَمَانَةِ، وَشُيُوعِ الْخِيَانَةِ إلخ.. إلخ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ نَتَائِجِ تَرْكِ التَّبْيِينِ.
قَالَ: وَلِهَذِهِ التَّعْمِيَةِ، وَهَذَا الِاضْطِرَابِ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ أَسْبَابٌ أَهَمُّهَا مَا كَانَ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبْلُ- لَاسِيَّمَا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ- فَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأُمَّةُ إِلَى شِيَعٍ وَذَهَبَتْ فِي الْخِلَافِ مَذَاهِبَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَصَارَ كُلُّ فَرِيقٍ يَنْصُرُ مَذْهَبَهُ وَيَحْتَجُّ لَهُ بِالْكِتَابِ يَأْخُذُ مَا وَافَقَهُ مِنْهُ وَيُئَوِّلُ مَا خَالَفَهُ، وَاتَّبَعَهُمُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَضِيَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكُتُبِ طَائِفَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ حَتَّى جَاءَتْ أَزْمِنَةٌ تَرَكَ فِيهَا الْجَمِيعُ التَّحَاكُمَ إِلَى الْقُرْآنِ، وَتَأْيِيدَ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ بِهِ، وَتَأْوِيلَ مَا عَدَاهُ (أَقُولُ: بَلْ وَصَلْنَا إِلَى زَمَنٍ يُحَرِّمُونَ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا يَرَوْنَ فِيهِ لِلْقُرْآنِ فَائِدَةً تَتَعَلَّقُ بِمَعْنَاهُ، بَلْ كُلُّ فَائِدَةٍ عِنْدَهُمْ أنه يُتَبَرَّكُ بِهِ، وَيُتَعَبَّدُ بِأَلْفَاظِهِ، وَيُسْتَشْفَى بِهِ مِنْ أَمْرَاضِ الْجَسَدِ دُونَ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ)، حَتَّى صِرْنَا نَتَمَنَّى لَوْ دَامَتْ تِلْكَ الْخِلَافَاتُ، فَإِنَّهَا أَهْوَنُ مِنْ هَجْرِ الْقُرْآنَ بَتَاتًا، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ وَقَعُوا فِي اضْطِرَابٍ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى صَارُوا يَحْسَبُونَ مَا لَيْسَ بِدِينٍ دِينًا، وَحَتَّى إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَرَوْنَ الْمُنْكَرَاتِ فَلَا يُنْكِرُونَهَا بَلْ كَثِيرًا مَا يَقَعُونَ فِيهَا، أَوْ يَتَأَوَّلُونَ لِفَاعِلِيهَا، وَلَوْ بَيَّنُوا لِلنَّاسِ كِتَابَ اللهِ لَقَبِلُوهُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَبْيِينِ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ- وَهُمُ الْمُفَسِّرُونَ- لَمْ يَكُنْ تَبْيِينُهُمْ كَامِلًا كَمَا يَنْبَغِي، وَكَانَ جَمَالُ الدِّينِ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْأن لا يَزَالُ بِكْرًا، وَإِنَّ لِي كَلِمَةً مَا زِلْتُ أَقُولُهَا، وَهِيَ أَنَّ سَبَبَ تَقْصِيرِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ وَصَلَتْ إِلَيْنَا كُتُبُهُمْ هُوَ عَدَمُ الِاسْتِقْلَالِ التَّامِّ فِي الْفَهْمِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ لِبَلَادَةٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ أُمُورٍ أَهَمُّهَا: الِافْتِتَانُ بِالرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَتَغَلُّبُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفَنِّيَّةِ فِي الْكَلَامِ، وَالْأُصُولِ، وَالْفِقْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمُحَاوَلَةُ نَصْرِ الْمَذَاهِبِ، وَتَأْيِيدِهَا.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ الْبَيَانَ، أَوِ التَّبْيِينَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَبْيِينُهُ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِأَجْلِ دَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَثَانِيهِمَا تَبْيِينُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِأَجْلِ إِرْشَادِهِمْ، وَهِدَايَتِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ وَاجِبٌ حَتْمٌ لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا اشْتَرَطَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الِاسْتِفْتَاءِ، وَالسُّؤَالِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ الْعَالِمَ لَا يِجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِدَعْوَةِ النَّاسِ، وَتَعْلِيمِهِمْ إِلَّا إِذَا سَأَلُوهُ ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ آكَدُ فِي الْإِيجَابِ مِنْ قوله تعالى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [3: 104] الَّذِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْجُزْءِ؛ فَإِنَّ الأمر وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَكَّدَ بِقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إِلَّا أَنَّ التَّأْكِيدَ فِيهِ دُونَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ هُنَا، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْقَسَمِ، ثُمَّ مَا يَلِيهِ مِنْ تَصْوِيرِ تَرْكِ الِامْتِثَالِ بِنَبْذِ الْكِتَابِ، وَبَيْعِهِ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ، وَمِنَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قَالَ: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} النَّبْذُ: الطَّرْحُ، وَقَدْ جَرَتْ كَلِمَةُ نَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي تَرْكِ الشَّيْءِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، كَمَا يُقَالُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ: جَعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، أَوْ أَلْقَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَيِ اهْتَمَّ بِهِ أَشَدَّ الِاهْتِمَامِ بِحَيْثُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يَنْسَاهُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ إِلَى كَوْنِ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا بِهِ فَيَجْعَلُوا الْكِتَابَ إِمَامًا لَهُمْ وَنُصْبَ أَعْيُنِهِمْ لَا شَيْئًا مُهْمَلًا مُلْقًى وَرَاءَ الظَّهْرِ لَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، وَلَا يُفَكَّرُ فِي شَأْنِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ {مِنْهُمُ} الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُ كَمَا يَحْمِلُ الْحِمَارُ الْأَسْفَارَ فَلَا يَسْتَفِيدُ مِمَّا فِيهَا شَيْئًا، {وَمِنْهُمُ} الَّذِينَ يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، {وَمِنْهُمُ} الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلَّا أَمَانِيَّ يَتَمَنَّوْنَهَا، أَيْ قِرَاءَاتٍ يَقْرَءُونَهَا، أَوْ تَشْهِيَاتٍ يَتَشَهُّونَهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسَيَأْتِي فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
ثُمَّ بَيَّنَ تعالى جَرِيمَةً أُخْرَى مِنْ جَرَائِمِهِمْ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَيْ أَخَذُوا بَدَلَهُ فَائِدَةً دُنْيَوِيَّةً قَلِيلَةً لَا تُوَازِي عُشْرَ فَوَائِدِ بَيَانِ الْكِتَابِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، فَكَانُوا مَغْبُونِينَ فِي هَذَا الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَهَذَا الثَّمَنُ هُوَ مَا كَانَ يَسْتَفِيدُهُ الرُّؤَسَاءُ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ وَعَكْسُهُ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ- وَمِنْهُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعُلَمَاءُ إِلَى الْحُكَّامِ، وَأُجُورُ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ التَّفْصِيلِ فِيهِ، وَالْعِبْرَةُ بِهِ.
وَقَدْ أَرْجَعَ بَعْضُهُمْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ الضَّمِيرَ فِي قوله: {فَنَبَذُوهُ} وَقوله: {وَاشْتَرَوْا بِهِ} إِلَى الْمِيثَاقِ. وَجَرَى مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الدَّرْسِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ بَعْضُ الطُّلَّابِ، وَلَعَلَّهُ سَهْوٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَعْنَى آيَةِ الْبَقَرَةِ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [2: 174] الْآيَةَ، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي الْكِتَابِ، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ أُخْرَى مِنْهَا قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [2: 79] وَمِنْهَا فِي خِطَابِ بَنِي إسرائيل {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [2: 41] فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. وَوَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [آلِ عِمْرَانَ] بَيْعُ الْعَهْدِ وَالْأَيْمَانِ، وَاشْتِرَاءُ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِهِمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [3: 77] الْآيَةَ. وَتُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ، وَالْعَهْدُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْمِيثَاقِ، وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى مَا عَهِدَ اللهُ بِهِ إِلَى النَّاسِ فِي وَحْيِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [36: 60] الْآيَةَ. وَقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [2: 125] الْآيَةَ، فَالْعَهْدُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادُ بِهِ الْمَعْهُودُ بِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْكِتَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا [3: 77]، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الْعَهْدَ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الإيمان؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ وَاحِدٌ وَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْأَيْمَانُ تُعْتَبَرُ كَثِيرَةً بِكَثْرَةِ مَنْ أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قوله: {فَنَبَذُوهُ} وَقوله: {وَاشْتَرَوْا بِهِ} هُوَ ضَمِيرُ الْكِتَابِ لَا الْمِيثَاقِ كَمَا قِيلَ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَبَذُوا الْمِيثَاقَ: لَمْ يَفُوا بِهِ إِذْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ الَّذِي اشْتَرَوْهُ بِهِ لَمْ يُبَيِّنْهُ الْقُرْآنُ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، وَمَعْرُوفٌ مِنْ سِيرَتِهِمْ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ الدَّنِيَّةِ وَاللَّذَائِذِ الْفَانِيَةِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَجِدُ فِي الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ، وَالْتِزَامِ الشَّرِيعَةِ مَشَقَّةً فَيَتْرُكُهُ حُبًّا فِي الرَّاحَةِ، وَإِيثَارًا لِلَذَّةٍ، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ وَالتَّحْرِيفُ فَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَغْرَاضٌ كَثِيرَةٌ:
(مِنْهَا) الْخَوْفُ مِنَ الْحُكَّامِ، وَالرَّجَاءُ فِيهِمْ، فَيُحَرِّفُ رِجَالُ الدِّينِ النُّصُوصَ عَنْ مَوَاضِعِهَا الْمَقْصُودَةِ، وَيَصْرِفُونَهَا إِلَى مَعَانٍ أُخْرَى لِيُوَافِقُوا مَا يُرِيدُ الْحَاكِمُ فَيَأْمَنُوا شَرَّهُ، وَيَنَالُوا بِرَّهُ.
(وَمِنْهَا) إِرْضَاءُ الْعَامَّةِ، أَوِ الْأَغْنِيَاءِ خَاصَّةً بِمُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ لِاسْتِفَادَةِ الْجَاهِ، وَالْمَالِ. (وَمِنْهَا)- وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي التَّحْرِيفِ- الْجَدَلُ، وَالْمِرَاءُ بَيْنَ رِجَالِ الدِّينِ أَنْفُسِهِمْ لَاسِيَّمَا الرُّؤَسَاءُ وَطُلَّابُ الرِّيَاسَةِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا قَالَ قَوْلًا، أَوْ أَفْتَى فَأَخْطَأَ فَأَبَانَ خَطَأَهُ آخَرُ يَنْبَرِي لِتَصْحِيحِ قَوْلِهِ، وَتَوْجِيهِ فُتْيَاهُ، وَتَخْطِئَةِ خَصْمِهِ، وَتَأْخُذُهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَيَرَى الْمَوْتَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ أَخِيهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ.
(وَمِنْهَا) الْجَهْلُ، فَإِنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِلتَّعْلِيمِ، أَوِ الْفُتْيَا قَدْ يَجْهَلُ مَسَائِلَ فَيَتَعَرَّضُ لِبَيَانِهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِذَا أُبِيحَ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَلِّمَ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي نَعْهَدُهَا مِنَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ جَهَلَةَ الطُّلَّابِ بِالتَّدْرِيسِ، وَيُعْطُونَهُمُ الشَّهَادَةَ بِالْعِلْمِ مُحَابَاةً لَهُمْ، فَإِنَّهُ يُرَبِّي تَلَامِيذَ أَجْهَلَ مِنْهُ فَيَكُونُونَ كُلُّهُمْ مُحَرِّفِينَ مُخَرِّفِينَ، وَيَفْسُدُ بِهِمُ الدِّينُ لَاسِيَّمَا إِذَا صَارُوا مُقَرَّبِينَ مِنَ الأمراءِ وَالْحُكَّامِ.